أعلام ومعالم

رفاعة الطهطاوي.. رائد التنوير الذي ربط الشرق بالغرب بعقل مستنير وقلم نهضوي

في واحدة من اللحظات المفصلية في تاريخ مصر الحديث، ومع انطلاق مشروع محمد علي باشا لبناء الدولة الحديثة، سُطرت أولى صفحات النهضة الفكرية عام 1826 بإيفاد أول بعثة تعليمية إلى فرنسا. وضمت البعثة 44 طالبًا، كان بينهم شاب أزهري لم يُوفد ليتعلم، بل ليكون إمامًا ومرشدًا دينيًا لأفرادها.
لكن ذلك الشاب، رفاعة رافع الطهطاوي، لم يلبث أن أصبح عقل البعثة وقلبها المفكر، ليبدأ مسارًا فكريًا وثقافيًا سيغيّر وجه مصر إلى الأبد.

بداية الوعي والتنوير

كان الطهطاوي في الرابعة والعشرين من عمره حين غادر إلى باريس، بعد تزكية من شيخه حسن العطار، الذي سيصبح لاحقًا شيخ الأزهر. وهناك، تجاوز حدود مهمته الدينية، فتعلم اللغة الفرنسية، واطّلع على الفلسفة والآداب والعلوم الأوروبية، وبدأ ينظر إلى الغرب بعين الباحث لا المقلد.
عاد إلى مصر عام 1831 محمّلًا برؤية تنويرية شاملة، تقوم على الأخذ من الحضارة الغربية دون التفريط في الهوية الإسلامية، ليصبح أحد أبرز رموز النهضة في التاريخ المصري الحديث.

مدرسة الألسن وبدايات النهضة العلمية

في عام 1835، أسس الطهطاوي مدرسة الألسن، لتكون جسرًا حضاريًا يربط بين الشرق والغرب، وأسهم في تعريب العلوم ووضع أسس التعليم الحديث. كما تولى عام 1842 رئاسة جريدة الوقائع المصرية، فطوّر محتواها وجعلها منبرًا للوعي الوطني والثقافي، لتُعرف فيما بعد بأنها أول صحيفة عربية حديثة.
وفي عام 1870، شارك مع علي باشا مبارك في إصدار مجلة روضة المدارس، التي جمعت بين الأدب والعلم والسياسة، لتكون منارة فكرية للأجيال المتعلمة.

المفكر الإنسان

وُلد رفاعة الطهطاوي في 15 أكتوبر 1801 بمدينة طهطا في صعيد مصر، لأسرة من الأشراف. حفظ القرآن الكريم صغيرًا، وتعلّم النحو والفقه، قبل أن يلتحق بالأزهر وهو في السادسة عشرة، حيث تأثر بعمق بأستاذه حسن العطار الذي فتح أمامه آفاق العلوم الحديثة.
لم يكن الطهطاوي مجرد مترجم أو ناقل للمعرفة، بل كان مفكرًا إصلاحيًا ذا رؤية وطنية شاملة، دعا إلى تعليم المرأة في كتابه الشهير “المرشد الأمين للبنات والبنين”. كما تجلى وعيه الإنساني في حياته الشخصية، حين نصّ في عقد زواجه عام 1840 على عدم الزواج عليها أو امتلاك جارية، وعلق عصمتها على هذا الشرط، في خطوة تُظهر عمق وعيه الاجتماعي وتقدّمه الإنساني.

حارس الهوية وحامي التراث

كان الطهطاوي من أوائل الداعين إلى الحفاظ على الآثار المصرية وصونها من السرقة والعبث، إذ كتب محذرًا من التفريط فيها أو بيعها للأجانب، معتبرًا أنها “شواهد على هوية الأمة وجذورها”. ودعا إلى جمعها وتنظيمها في متاحف وطنية تحفظ ذاكرة الحضارة المصرية.

منزل الطهطاوي.. ذاكرة فكرية نابضة

في مدينته طهطا، يقف منزل رفاعة الطهطاوي شاهدًا على مسيرة التنوير، رغم أنه لم يشيده بنفسه، بل بناه حفيده محمد بدوي بك رفاعة الطهطاوي بعد عقود من وفاته، تخليدًا لاسمه وإرثه الفكري.
يقول حفيده عمر فتحي محمد بدوي رفاعة الطهطاوي في حديثه للجزيرة نت:

“بنى جدي محمد بدوي بك المنزل قبل أكثر من مئة عام ليكون بيت العائلة وذاكرة حية لأفكار رفاعة”.

يقع المنزل على شارع بورسعيد الرئيسي بمساحة تقارب ألفي متر مربع، ويضم مشربيات خشبية وزخارف أثرية تضفي عليه طابع العمارة التقليدية. وتحتفظ غرفه بصور ووثائق نادرة، من بينها قسيمة زواج الطهطاوي عام 1840، وصورة شهيرة له محفوظة في متحف اللوفر الفرنسي، إلى جانب ساعة حائط من القرن التاسع عشر توقفت عقاربها كما لو توقفت احترامًا لصاحب الدار.

إرث خالد في الذاكرة الوطنية

يحتفي أبناء سوهاج وطهطا بذكراه من خلال رموز متعددة تحمل اسمه؛ منها مكتبة وميدان في سوهاج، ومدرستان وشارع في طهطا، إضافة إلى أربعة تماثيل له، أحدها أمام جامعة سوهاج القديمة، وثلاثة في مداخل وميدان محطة المدينة.

لقد تجاوز رفاعة الطهطاوي كونه إمامًا أو مترجمًا ليصبح رائد التنوير العربي الأول، ورجل الدولة الذي جمع بين العقل والضمير، الدين والعلم، التراث والتحديث.
فقد آمن أن العلم هو الجسر الذي تعبر عليه الأمم نحو النهضة، وأن الهوية لا تُحفظ بالانغلاق، بل بالثقة والانفتاح الواعي على العالم.

توفي الطهطاوي في 27 مايو 1873 عن عمر ناهز 72 عامًا، بعد أن ترك إرثًا فكريًا وثقافيًا لا يُقدّر بثمن، وظلّ اسمه محفورًا في ذاكرة مصر والعالم العربي كأول من مدّ الجسور بين حضارتين بالعقل والفكر لا بالسلاح.

زر الذهاب إلى الأعلى